Saturday, July 26, 2008

الممكنات الاقتصادية لمستقبل البشرية

الممكنات الاقتصادية لمستقبل البشرية


نهاية الفقر: الممكنات الاقتصادية لمستقبل البشرية
المؤلف: جيفري دي سكس عرض وتحليل: ياسين حسن ياسين

في كتاب تحليلي مدعوم بإحصاءات اقتصادية ذات مغزى من واقعنا المعاش، يأخذنا جيفري ساكس في رحلات مصورة ومشوقة حول العالم بين دولة مدقعة الفقر مثل ملاوي في إفريقيا، وأخرى متوسطة الفقر مثل بنجلادش في آسيا، وثالثة في أوج الصعود على سلم التنمية مثل الهند والصين. ومن خلال هذه الرحلات المثيرة للتفكير العميق، يسعى المؤلف إلى استكشاف ما ينبغي عمله حتى يستطيع العالم القضاء على الفقر بوصفه المعوق الحقيقي لمسيرة البشرية نحو التجانس الاجتماعي والسلم والازدهار.
يرى المؤلف أن الفقر معادلة شديدة الصعوبة، بيد أنها ممكنة الحل. وهو ينطلق من فرضية بسيطة مفادها أن الجيل الراهن يستطيع، بل ينبغي عليه، إنهاء الفقر بحلول عام 2025م. إذ يشهد العالم حالياً موت أكثر من ثمانية ملايين شخص سنوياً بسبب الفقر المدقع. وفي هذا الصدد، يؤكد المؤلف أن معدل الموت اليومي البالغ 20 ألف شخص ينبغي وضعه في إطاره الصحيح بأن نقول إن ثمانية آلاف طفل ماتوا من الملاريا، وإن خمسة آلاف من الأمهات والآباء ماتوا جراء الدرن و7500 شاب ماتوا من مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، والآلاف مثلهم جراء الإسهال وأمراض الرئة والأمراض القاتلة الأخرى التي تقتات على الجسم البشري متى أنهكه الفقر المزمن وأعيته الحيلة.
يسعى المؤلف إلى استكشاف ما ينبغي عمله حتى يستطيع العالم القضاء على الفقر بوصفه المعوق الحقيقي لمسيرة البشرية نحو التجانس الاجتماعي والسلم والازدهار.
منذ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، بدأت الولايات المتحدة، ومعها الدول الغنية في الغرب، تشن حملة ضروساً ضد الإرهاب، متجاهلةً تماماً دواعي عدم الاستقرار العالمي. ويشير جيفري ساكس إلى أن مبلغ 450 مليار دولار أمريكي التي خصصت في الميزانية الأمريكية هذه السنة للإنفاق العسكري لن تجدي نفعاً ولن تجلب سلاماً طالما ظلت المساعدات التي تقدمها للقضاء على الفقر في العالم لا تصل عُشر هذا المبلغ. إذ وصلت هذه المساعدات إلى 15 مليار دولار هذا العام. ذلك أن الفقر يحدث اضطراباً في المجتمعات الفقيرة ويحيلها بالتالي إلى ملاذات طبيعية للفوضى وتنامي العنف والإرهاب العالمي.
يصل المؤلف قرية نيثاندير القريبة من ليلونجي عاصمة ملاوي في الجزء الشرقي من جنوب القارة الإفريقية. يلاحظ أن سكان القرية ليس بينهم شباب أقوياء قادرون على العمل في المزارع وحفر الآبار. وعلى النقيض من ذلك، فإن المسنين والأطفال يشكلون غالبية السكان. وبالتساؤل عن مكان ذهاب الشباب يُفاجأ المؤلف بأن الشباب قد ماتوا بسبب مرض نقص المناعة المكتسبة الذي يعصف بتركيبة المجتمعات في أغلب بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. لم يترك الإيدز لهذه القرية من شبابها سوى خمسة أبناء في السن العمرية بين عشرين وأربعين سنة. ولم يكن هؤلاء موجودين وقتها حيث ذهبوا إلى المقابر لدفن رفيق لهم مات بمرض الإيدز أيضاً.
وكانت ملاوي من أولى الدول الإفريقية التي عكفت على استقصاء سبل مكافحة الوباء والاستعانة بالمجتمع الدولي لتمكينها من استئصاله. بدأت ذلك بلجنة وطنية يرأسها جستين ملاويسي، نائب الرئيس، الذي شكل فريقاً من الخبراء لوضع استراتيجية لمكافحة الإيدز إثر زيارات لأساطين الطب في جامعات هارفارد وجون هوبكنز وليفربول ومدرسة لندن للصحة وطب المناطق الحارة ومنظمة الصحة العالمية.
وتضمنت استراتيجية مكافحة الإيدز مقترحاً تقدمت به ملاوي للمجتمع الدولي يفضي بتقديم العلاج لثلث المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة البالغ عددهم 300 ألف شخص في غضون خمس سنوات. بيد أن الدول المانحة ـ بما فيها الولايات المتحدة والدول الأوروبية ـ طلبت من ملاوي خفض مقترحاتها نظراً لأنها فائقة الطموح وعالية التكلفة. ثم خفض المقترح المعدل إلى معالجة 100 ألف شخص بنهاية السنة الخامسة. وفي نهاية المطاف، لم يوافق المانحون إلاّ على تمويل علاج 25 ألفاً فقط.
وتكون ملاوي بذلك، على حد وصف كارول بيلامي، من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف) قد وقعت فريسة لعاصفة من التدهور المناخي والفقر المدقع ووباء الإيدز ومرض الملاريا وطائفة أخرى من أمراض المناطق المدارية الفتاكة. ولم يسع المجتمع الدولي سوى تقديم درس في البلاغة مع القليل جداً من الفعل.
بنجلادش.. بداية الارتقاء نحو التنمية
على بعد آلاف الكيلومترات من تلك العاصفة، يقف المؤلف على مشهد آخر للفقر في بنجلادش. وهنا يجد أن الفقر في حال تراجع، حيث أمكن تدريجياً كسب المعركة من أجل البقاء، على الرغم من وجود مخاطر فادحة ومتطلبات كبيرة لا تزال في الأفق.
ظهرت بنجلادش عام 1971م إثر حرب استقلال مع باكستان. وفي أولى سنة من عمرها، شهدت الدولة الوليدة مجاعة طاحنة وتمزقاً سياسياً واجتماعياً حدا بأحد موظفي وزارة الخارجية الأمريكية تحت إدارة هنري كيسنجر، وصفها بسلة المشاكل الدولية. بيد أن بنجلادش اليوم، وعدد سكانها يبلغ 140 مليوناً، لم تعد سلة للمشاكل. إذ تضاعف نصيب الفرد من الدخل القومي منذ الاستقلال. كما ارتفع متوسط عمر الفرد من 44 سنة إلى 62 سنة؛ كذلك تراجع معدل وفيات الأطفال (وهو عدد الأطفال الذين يموتون قبل عامهم الأول من بين كل ألف مولود) من 145 في 1970 إلى 48 في 2002. ويرى جيفري ساكس أن بنجلادش أكبر دليل على وجود ثمة طريقة إلى الأمام إذا ما اتخذت الاستراتيجيات الصحيحة وإذا ما تم العثور على الاستثمارات الملائمة.
بيد أن بنجلادش لا تزال واقعة في قبضة الفقر المدقع. وعلى الرغم من أنها خرجت من مآسي المجاعة والأمراض التي شهدتها في الماضي، إلاّ أنها تواجه اليوم تحديات كبيرة. ويبدو أن هناك بالفعل مؤشرات على صعود شرائح عريضة من الفقراء إلى الدرجة الأولى من سلم التنمية. على سبيل المثال، يأخذنا المؤلف في جولة داخل مصانع الملبوسات حيث تعمل مجموعة من النساء القرويات وحيث يتم تصنيع ماركات عالمية معروفة، مثل: بولو وإيف سان لوران وول مارت. تعمل المرأة في هذه المصانع لمدة 12 ساعة متواصلة، وحتى مرات دخول المرحاض فهي معدودة من صاحب العمل حرصاً على عدم إهدار الوقت. إنها ظروف عمل كثيراً ما يعترض عليها العالم الصناعي، مطالباً بضرورة تحسين جودتها وسلامتها أو مقاطعة المنتجات الخارجة منها.
بيد أن المؤلف يرى أن على الغرب ـ بدلاً من التوعد بمقاطعة منتجات الملبوسات من بنجلادش وخلافها ـ دعم المزيد من فرص العمل المماثلة، مع الحرص على سلامة أوضاعها. ذلك أن هؤلاء النسوة قد وضعن أقدامهن في أعتاب التنمية مقارنة برصيفاتهن في ملاوي. وعلى الرغم من الأوضاع السيئة السائدة في مصانع الملبوسات، إلاّ أنها تمثل المخرج الفعلي من ربقة الفقر المدقع.
شأن عمالقة الاقتصاد الكلي، يستقصي المؤلف جميع انعكاسات عمل هؤلاء النسوة على مناحي الحياة كافة. وفي حوارات صحافية أجريت مع طائفة منهن، يتبلور شبه إجماع بين هؤلاء النساء أن المشاكل الرئيسية التي تواجههن تتمثل في طول ساعات العمل وانعدام الحقوق. لكن هناك أيضاً إجماعاً وتأكيداً قاطعاً أن هذا العمل يعتبر أفضل فرصة تتاح لهؤلاء النسوة، كما أن عملهن قد أحدث تغييراً كبيراً في حياتهن نحو الأفضل.
يأتي أغلب هؤلاء النسوة من بيئة قروية؛ وكن يجمعن الفقر إلى الأمية والعرضة للجوع والقسوة في مجتمع أبوي صارم. وفي مألوف التقاليد بالنسبة لهن أن يتم تزويجهن في سن مبكرة حتى ينجبن بين السابعة عشرة والثامنة عشرة.
تشهد بنجلادش ظاهرة أخرى من التضامن الاجتماعي للخروج الجماعي من نفق الفقر. تلك الظاهرة هي الجمعيات الأهلية لتقديم القروض الصغيرة مثل اللجنة البنجلادشية للتقدم القروي وبنك غرامين المشهور. وتعمل هذه المؤسسات الأهلية على إتاحة القروض الجماعية، حيث يحصل المستفيدون (وأغلبهم من النساء) على قروض صغيرة من بضع مئات من الدولارات لتشغيلها كرأسمال عامل في أنشطة أعمال محدودة. وتقوم الفكرة على أن الإقراض الجماعي يقلل من احتمالات التهرب من السداد مع العمل على تقليل تكلفة العملية. ويلاحظ المؤلف، من خلال بحوث ميدانية تعتمد على الحوارات المباشرة، أن مبدأ القروض الصغيرة لا يقتصر على زيادة دخل الأسر فقط، إنما يتعداه إلى تغيير التركيبة الاجتماعية للأسرة. إذ يتوصل في بحثه إلى نتيجة مفادها أن أغلب النساء العاملات في أنشطة صغيرة يفضلن الأسرة الصغيرة التي لا يزيد عدد أطفالها على اثنين. ومع هذه النتيجة تبرز ملاحظة أخرى لا تقل أهمية، وهي اتساع دائرة حقوق المرأة في المجتمع وتنامي استقلالها وتمكينها وانخفاض معدل وفيات الأطفال وزيادة التعليم في أوساط البنات وانتشار ظاهرة التخطيط العائلي.
ويخلص ساكس إلى أن بنجلادش استطاعت وضع قدميها على المرتبة الأولى في سلم التنمية، وحققت النمو الاقتصادي وتحسين مستويات الصحة والتعليم بسبب تضافر جهودها الذاتية مع القدرة الابتكارية للجمعيات الأهلية مثل بنك غرامين، وكذلك بفضل الاستثمارات الضخمة التي وضعتها حكومات الدول المانحة التي رأت أن بنجلادش بلد جدير بالعناية والدعم التنموي، وليس فقط سلة للمشاكل العالمية، كما رأى موظف وزارة الخارجية الأمريكية إبان سني استقلالها.
الهند..أسطورة التنمية في العصر الحديث
أما الهند فقد ارتقت عدة درجات في سلم التنمية. وفي زيارة له لأحد مراكز تقنية المعلومات في مدينة شيناي في ولاية تاميل نادو، وهي خلية نحل التقنية في الهند، يقف المؤلف على مجموعة من الموظفات الحاصلات على دبلوم فوق الثانوي مدته سنتان. وتعمل هؤلاء الموظفات على طباعة التقارير الطبية التي يتم تسلمها بالإنترنت من أحد المستشفيات في شيكاغو في الولايات المتحدة. ومع انتهاء عمل المستشفي الأمريكي ترسل التقارير الطبية الشفهية عبر الإنترنت لطباعتها وإعادتها بحيث يتسنى تسلمها في المستشفى صبيحة اليوم التالي. ويكتشف المؤلف ـ وهو الأمريكي لغةً وثقافةً ـ أن قدرة الموظفات على استيعاب مخارج حروف مختلف الأطباء مع تباين المصطلحات وتعددها تفوق كثيراً قدرته على التعرف على أغلب الكلمات المستخدمة. بالطبع يرجع الأمر إلى جودة التدريب وتوافر الاستثمار الذي وضع منذ البداية. محصلة ذلك أن الموظفة في هذا المركز تحصل على دخل شهري يراوح بين 250 و500 دولار وفقاً لمستوى تدريبها ومهارتها، علماً بأن هذا الدخل يمثل بين العشر إلى الثلث فقط من دخل رصيفتها العاملة في مقر المستشفى في شيكاغو. ومع ذلك فإن دخل الموظفات في الهند يزيد على ضعف دخل العاملات غير الماهرات في الهند وربما ثمانية أضعاف العاملة الزراعية.
يختتم ساكس استعراضه لمعجزة التنمية الهندية بملاحظة أن ما حدث من تقدم وازدهار في الهند وفي الصين كان مثاراً لحنق العديدين في الولايات المتحدة ممن يعتقد أن تلك التنمية قد كانت على حساب التقدم في أمريكا والدول المتقدمة عموماً. بيد أن المؤلف يوضح خطل هذا الزعم وخطورته. فهو زعم خاطئ لأن العالم ليس معركة محصلتها صفر، بمعنى أن مكسب هذا الطرف لا بد أن يأتي على حساب طرف آخر، بل على العكس من ذلك، يؤدي تحسن الأوضاع التقنية ونمو المهارات إلى رفع مستويات الدخل في العالم بأسره. إن الموظفات الهنديات لا يقتصرن على تقديم خدمة ذات مغزى اقتصادي بالنسبة للولايات المتحدة، إنما يعملن أمام حاسبات آلية من طراز ديل الأمريكية ويستخدمن برمجيات من إنتاج "مايكروسوفت" و"ساب" الأمريكية وعدة آليات لنقل المعلومات تم تأمينها من الدول الصناعية.
الحاجة إلى اقتصاد إكلينيكي
ماذا نستنتج من هذا التباين الفادح في مستويات دخل الشعوب؟ ففي تحليل رصين يأخذنا جيفري ساكس إلى الحقائق الاقتصادية والديموغرافية للعالم في شرح بسيط وفعال. ويؤكد أن البشرية، على وجه العموم، حققت قدراً لا بأس من النجاح في الخروج من مأزق الفقر المدقع منذ بداية الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي؛ إلاّ أن هنالك 1.1 مليار نسمة من بين سكان العالم البالغ عددهم 6.5 مليار لا يزالون شديدي الفقر في عالم من الوفرة. ويعيش هؤلاء الفقراء على أقل من الدولار الواحد يومياً، ولا يستطيعون الوصول إلى أسباب التغنية الكافية والمياه النقية والمأوى، إلى جانب خدمات الصرف الصحي والرعاية الطبية.
ويرى ساكس أن العالم قد أفاد كثيراً من سبل تحقق التنمية في الدول والمعوقات التي تقف أمام التنمية الاقتصادية. وهو يرى الحاجة إلى نشأة اقتصاد تنموي جديد يرتكز على العلم المجرد ـ وهو اقتصاد إكلنيكي شبيه بالطب الحديث. ولعل العالم في حاجة إلى هذا النوع الجديد من الاقتصاد ليحل محل الاقتصاد التنموي الذي تمت ممارسته في غضون العشرين سنة الأخيرة التي عرفت بحقبة الإصلاح الهيكلي. وبدأت هذه الحقبة بالتحول المحافظ في الولايات المتحدة تحت زعامة الرئيس رونالد ريجان وفي المملكة المتحدة في عهد رئيسة الوزراء مارجريت ثاتشر. ويقوم هذا الاقتصاد على رؤية بسيطة، وربما تبسيطية، لتحدي الفقر. إذ يقول العالم الغني للدول الفقيرة: إن الفقر مشكلتكم وحدكم. ولتكونوا مثلنا ـ اقتصاد سوق حر ومنضبط من ناحية مالية. هكذا كانت سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في هذه الحقبة موجهة لتناول المعضلات الأربع المزعوم أنها وراء العلل الاقتصادية: وهي كل من أنظمة الحكم فقيرة الأداء، التدخل الحكومي المفرط في الأسواق، الانفاق الحكومي الزائد، والكثير من الملكية الحكومية للمؤسسات. وبالتالي جاءت برامج ربط الأحزمة والتخصيص والتحرر الاقتصادي والحكم الرشيد في صدارة الاهتمام لمعالجة ما استفحل من داء.
لا شك أن هنالك بعض جوانب الصواب في جدول أعمال الإصلاح الهيكلي. إذ إن الكثير من الدول النامية التي وقعت في شباك الأزمة الاقتصادية في بداية الثمانينيات كانت تعاني من سوء إدارة اقتصادية مستعصية. واختارت بعضها أنظمة تجارة مغلقة. وأخفقت استراتيجيات العالمين الثاني والثالث، وكان لا بد من إعادة توجيهها لمواءمة النظام العالمي القائم على اقتصاد السوق. لكن مشاكل السياسات وأنظمة الحكم في الدول الفقيرة ليست سوى جزء من القصة، وهي في الكثير من البلدان ليست بالمحور الرئيسي في القصة. وليس ممكناً التطرق إلى مشاكل أنظمة التجارة المغلقة والتأميم المفرط للصناعات مع تجاهل تام لمشاكل الملاريا والإيدز وجغرافيا المناطق متعذرة الوصول وندرة الأمطار. بيد أن هذا المنهج متعدد الأوجه لم يجد طريقه إلى ساحة الحوار حول السياسات إلا في الآونة الأخيرة.
ومن المؤسف أن تقف ثمة جوانب من المصلحة الذاتية الضيقة والبعد الإيديولوجي وراء إخفاق حقبة الإصلاح الهيكلي. أما نواحي المصلحة الذاتية فهي شديدة الوضوح: ذلك أن إلقاء اللوم على الفقراء فيما يتعلق بتقليل الفقر يقلل من أهمية الحاجة الملحة إلى الدعم المالي الأجنبي. ومن ثمّ شهدنا تراجع نصيب الفرد من المساعدات المالية في الدول الفقيرة خلال الثمانينيات والتسعينيات تراجعاً مذهلاً. ففي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مثلاً، انخفضت حصة الفرد من المساعدات وفقاً لأسعار الدولار لعام 2002 من 32 دولاراً في 1980 إلى 22 دولاراً في 2001، وهي الفترة التي زادت فيها الأوبئة وعصفت بالقارة بأسرها فيما تفاقمت الحاجة إلى الإنفاق العام.
أما الجانب الأيديولوجي من الموضوع فهو لا يقل وضوحاً. ذلك أن الحكومات المحافظة في الولايات المتحدة وبريطانيا وفي غيرهما من الدول العربية استغلت المشورة الدولية لتدفع ببرامج لم تحظ بالدعم المحلي. واضطر الكثير من الدول الإفريقية إلى سماع نصائح من البنك الدولي حول تخصيص الخدمات الصحية، أو على الأقل فرض رسوم على الصحة والتعليم. وفي الوقت نفسه، كان أغلب الدول الغنية من مساهمي البنك الدولي يتيح لمواطنيه أنظمة صحية تكفل الرعاية للجميع، ولدى أغلبها أيضاً أنظمة تعليمية تقدم التعليم للجميع.
الأهداف التنموية للألفية الجديدة
إن الأهداف التنموية للألفية الجديدة التي تواطأ عليها المجتمع الدولي في قمة الألفية في أيلول (سبتمبر) 2000 تعتبر فرصة مواتية لتحقيق إنجاز فعلي في الدول الفقيرة إثر 20 سنة من سياسات الإصلاح الهيكلي الفاشلة. وتستعرض الأهداف التنموية مرتكزات حقيقية لا يقتصر دورها على تحديد حجم المساعدات إنما أيضاً المؤشرات المرحلية لتقييم مدى نجاح مشورة الوكالات الدولية. وبالتالي فإن الإخفاق في تحقيق الأهداف التنموية يعتبر إخفاقاً من الدول الغنية مثلما هو كذلك من الدول الفقيرة، ولا سيما أن المسؤولية عن النجاح تقع على الجميع. إن حقيقة تعذر إحراز تقدم في الأهداف التنموية في أغلب أنحاء إفريقيا وبعض مناطق أمريكا اللاتينية ووسط آسيا تدل على أن المشاكل تتجاوز مسألة أنظمة الحكم الرشيد. ذلك أن الكثير من الحكومات في هذه المناطق قد أبدى شجاعة واستقامةً وذكاء، ومع ذلك تراجعت التنمية لديها. ومن هذا المنطلق تأتي الحاجة الملحة إلى اقتصاد إكلينيكي يشير إلى مسار استراتيجية أفضل في المستقبل.
يتمثل مفتاح الاقتصاد الجديد في التشخيص المغاير الذي تستتبعه وصفة علاجية مناسبة. وفي حال الفحص الطبي، يبدأ الطبيب بسلسلة تساؤلات تستقصي الأسباب واحداً إثر آخر. ذلك أن المرض، أياً كان، ينتج من طائفة واسعة ومتفاعلة من الأسباب والأوضاع: منها ما يتصل بالتغذية والبيئة والشيخوخة والتكوين الجيني للسكان والأفراد وأنماط الحياة، فضلاً عن احتمال انتقال المرض كعدوى.
بهذا الفهم الواسع لطبيعة المشكلة الاقتصادية وضرورة أن يأتي علاج مغاير كلي في كل حالة على حدة، يكون ساكس قد عمل على تقويض سلطان التهمة التي كثيراً ما تذرّع بها الغرب في نصائحه للدول الفقيرة بتبني "أنظمة حكم رشيد". يذهب المؤلف إلى الاسترشاد بأفكار الاقتصادي الاسكوتلندي آدم سميث (1723-1790) الذي تقوم أبوته غير المتنازع عليها للاقتصاد على مؤلفه حول طبيعة وأسباب ثروة الأمم. يصل ساكس إلى أن الجغرافيا ـ بما فيها الموارد الطبيعية والمناخ والتضاريس والقرب من مسارات التجارة والأسواق الرئيسية ـ لا تقل أهمية عن الحكم الرشيد بأي حال من الأحوال. إن تكلفة النقل تقف عائقاً أمام التقدم التنموي في أغلب الدول الفقيرة. مثلاً، فإن تكلفة شحن حاوية بطول 20 قدماً من ميناء روتردام في هولندا إلى ميناء دار السلام في تنزانيا ـ وهي مسافة تصل إلى 7300 كيلومتر ـ تبلغ 1400 دولار؛ بينما تكلفة نقل الحاوية نفسها من دار السلام إلى مدينة كيجالي في رواندا على مسافة 1280 كيلو متر نحو 2500 دولار، أي قرابة الضعف.
هذا من ناحية التأثير الاقتصادي للجغرافيا، بيد أن هناك جانباً آخر يتمثل في دور الجغرافيا في انتشار الأوبئة الفتاكة. إن الكثير من الأمراض المعدية يستوطن المناطق المدارية وشبه المدارية. من هذه الأمراض الملاريا، مثلاً. وعلى الرغم من انتشارها سابقاً لتصل إلى مناطق أخرى خارج هذا النطاق، إلاّ أن برودة الطقس تعمل على التحكم الطبيعي في انتقال عدوى الملاريا عبر الناموس. وحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، فإن عدد الإصابات بالملاريا يراوح بين 300 و500 مليون حالة في السنة، ويرتكز أغلبها في المناطق المدارية.
وهناك ناحية ثالثة لتأثير الجغرافيا، ألاّ وهي الإنتاجية الزراعية وارتباطها بالمناخ. ويلاحظ المؤلف أن فدان الأرض الزراعية في المنطقة المدارية ينتج في المتوسط 2.3 طن متري من الذرة، بينما يصل إنتاج الفدان نفسه إلى 6.4 طن متري في المناطق الرطبة. كما أن الزراعة في بيئات الغابات المدارية الممطرة تتأثر كثيراً بضعف التربة على الإنتاج، إذ يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى تحويل المواد العضوية إلى معادن ليأتي المطر الشديد ويجرفها بعيداً عن التربة.
التحالف الدولي لإنهاء الفقر..الأمم المتحدة كرأس رمح
من خلال هذا التحليل الرصين للفقر وتحديد إمكانيات تشخيصه بصورة مغايرة لكل دولة على حدة، يرى ساكس أن إنهاء الفقر المدقع يمكن تحقيقه بتمكين الفقراء من وضع أولى خطواتهم على سلم التنمية. إن هؤلاء يفتقرون إلى الحد الأدنى من رأس المال اللازم لتحريك الخطى. وبالتالي لا بد أن تتوافر للفقراء ستة أنواع رئيسية من رأس المال:
- رأس المال البشري، من خلال الصحة والتغذية وتوفير المهارات المطلوبة لكل فرد لكي ما يصبح منتجاً اقتصادياً.
- رأس المال العامل، متمثلاً في المعدات والمرافق والنقل الآلي في الزراعة والصناعة والخدمات.
- البنية التحتية، وهي الطرق والطاقة والمياه والصرف الصحي والمطارات والموانئ وأنظمة الاتصالات مما يعتبر حيوياً لتحقيق الإنتاجية لدى قطاع الأعمال.
- رأس المال الطبيعي، وهو الأراضي الصالحة للزراعة والتربة الخصبة والتنوع البيولوجي والنظم الإيكيولوجية جيدة العمل مما يتيح الخدمات البيئية المطلوبة للمجتمع البشري.
- رأس المال المؤسسي العام، متمثلاً في القانون التجاري الجيد والنظم القضائية العادلة والخدمات الحكومية ذات الكفاءة والإدارة التي تتيح تقسيماً عادلاً للعمل.
- رأس المال المعرفي، وهي المعارف العلمية والتقنية القادرة على رفع إنتاجية الأعمال والنهوض برأس المال الطبيعي والمادي على السواء.
ويعتقد جيفري ساكس أن الأهداف الثمانية التي حددها إعلان الألفية عام 2000م، والمعروفة عالمياً بالأهداف التنموية، تعتبر الفرصة المواتية الوحيدة أمام المجتمع الدولي للخروج من مأزق الفقر المدقع وما يفرخه من علل ومآسٍ. وعلى الرغم من أن إعلان الأمم المتحدة للألفية الجديدة قد حدد سنة 2015 غايةً لتحقيق الأهداف التنموية، إلاّ أن الغاية الكلية للقضاء النهائي على الفقر حددت في سنة 2025.
الخطوات التالية
في نهاية كتابه الشائق حول نهاية الفقر، يضع جيفري ساكس قائمة بالخطوات التي ينبغي على المجتمع الدولي أن يتخذها على الفور. ومن أبرز هذه الخطوات ما يلي:
* الالتزام السياسي بإنهاء الفقر، ويشار في هذا الصدد إلى أن الكثير من منظمات المجتمع المدني في العالم الغربي تبنى هدفاً حول جعل الفقر من قبيل التاريخ البشري. وإذا كانت الأهداف التنموية للألفية الجديدة قد حددت سنة 2015 لتقليل الفقر إلى النصف، فلماذا لا نتواطأ جميعاً على إنهائه تماماً في 2025؟
* وضع خطة عمل للتنفيذ، ويعتبر إعلان الألفية، الذي تضمن الأهداف التنموية، عربوناً في هذا الصدد.
* استعادة دور الولايات المتحدة في العالم، ذلك أن أغنى وأقوى دولة في العالم، وكانت القائد والملهم لمبادئ الديمقراطية، قد تحولت إلى دولة يخشاها الآخرون وأصبحت في السنوات الأخيرة تعمل على التقسيم والتجزئة. ويضيف ساكس أن السعي المحموم للولايات المتحدة نحو السيادة غير المتنازع عليها كان سعياً مأساوياً، إذ شكل أكبر المخاطر على الاستقرار الدولي.
* إنقاذ صندوق النقد والبنك الدوليين، ويجب عليهما أن يقوما بدور حاسم في إنهاء الفقر في العالم باعتباره المعضلة الرئيسية وأس الأمراض الأخرى كافة في جسم البشرية. ولهاتين المؤسستين الخبرة والقدرة الفنية للقيام بهذا الدور المهم. بيد أنهما في الآونة الأخيرة تحولا إلى وكالتين تديرهما الدول الدائنة بدل أن يكونا المؤسستين الدوليتين المنوط بهما تمثيل حكومات 182 دولة عضواً فيهما.
* تعزيز دور الأمم المتحدة، وليس مجدياً إلقاء اللوم على الأمم المتحدة على التعثرات الكثيرة في السنوات الأخيرة. وفي تحليل المؤلف أن علة الأمم المتحدة ليست في البيروقراطية التي تعشش فيها، إنما في حقيقة أن الدول القوية التي أنشأت المنظمة الدولية لم تعد تقبل التنازل عن سلطانها لمؤسسات دولية أياً كان مصدر نشأتها.
المؤلف: مدير معهد بحوث الأرض في جامعة كولمبيا ومدير مشروع الأمم المتحدة للألفية الجديدة. وهو خبير اقتصادي حقق شهرة واسعة من خلال استشاراته التي أثبتت جدواها في القضاء على التضخم المفرط في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، إلى جانب بحوثه الجريئة في تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والتحكم في الأمراض المستوطنة وخفض الديون للدول الفقيرة. وقد حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة هارفارد.
وكل ذلك بحسب المصدر المذكور.
المصدر: http://www.grenc.com/show_article_main.cfm?id=589